Friday, August 12, 2022

موسيقي الأرابيسك في تركيا بين الهوية الفنية والاحتجاج الثقافي

 غالبا ما تكون البلدان التي تقع بين حواف حضارات مختلفة بلدانا بفسيفساء ثقافية وهوياتية هجيينة ومختلفة وهذا ما من شأنه أن يقودها إلى أن تمر بالكثيرالتحورات والانسلاخات سواءا كانت إيجابية. وخير مثال على هذا هو تركيا وهي ذلك البلد لا يزال يبحث عن تحديد مكانته في الخارطة الثقافية العالمية، ولا يزال يسعى لتحديد فيما إذا كان بلدا شرقيا خياليا  أو بلدا أوربيا كما اصطلح على ذلك الكواكبي. وسنتناول في هذه المقالة ظاهرة  بزغت في تركيا كنتاج لهذا وهو فن موسيقي هجين يدعى بموسيقى الأرابيسك. وسنتطرق في هذا المنشور باختصار  إلى هذا الفن حتى يتسنى للقارئ مقارنته بالفنون الشعبية الأخرى التي ما فتئت تظهر ويأفل نجمها في البلدان العديدة.


مع توجه مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الدولة التركية الحديثة،  نحو الحداثة الغربية قام بتضييق الخناق على الموسيقى التركية القديمة وفتح المجال لأدبيات الموسيقى الغربية. وكيف لا وهو الذي قد قال في إحدى خطاباته أن:" مقياس التغيير في أي أمة يكمن في قدرتها على احتواء واستيعاب التغيير الموسيقي". وبناءا على هذا ومع حلول 1934 تم إيقاف بث الموسيقى التركية بألوانها في الإذاعات واستمر هذا الحظر لعامين متتالين وكانت الإذاعة خلال تلك الحقبة قناة أساسية يستمع الناس من خلالها للموسيقى وكانت الموسيقى الغربية هي الوحيدة التي كانت تعزف من خلال هذه القناة.


ومن أجل تعزيز هذا التغيير تم تأسيس لجنة إصلاح الموسيقى في تلك الفترة حيث اقترح أحد أعضاء اللجنة أن الحل الجذري لهذه المسألة هو المنع الكلي للموسيقى أحادية النغمة في عموم تركيا. ولكن هذا الاقتراح  قوبل بالاعتراض حيث علق أحد الأعضاء قائلا أنه لا يمكننا أن نجبر راعيا في الجبل أن يبحث عن راع ثاني حتى لا يكون الغناء أحادي النغمة. وازدادت غرابة هذا الاقتراح عندما سأل مصطفى كمال أتاتورك عن وضع هذه المبادرة الإصلاحية الموسيقية وتم التوصل إلى واقع أنه يجب مأسسة هذا الجهد من أجل الوصول إلى نتائج عملية.


ويجب التنويه إلى أنه من بين الكتب التي ساهمت في تعزيز موقف لفظ كل ما هو أجنبي شرقي وتبني ماهو غربي، هو الكتاب الذي ألفه ضياء جوك ألب والموسوم بـ "أساسيات القومية التركية" وكان هذا الكتاب بمثابة دستور مهم ممهدا للثورة الثقافية التركية. وكان يرى ضياء أنه يجب طرح كل الثقافات الأجنبية واستبدالها بالثقافة التركية الحديثة، وقد نجحت هذه الفكرة إلى حد بعيد إذا نظرنا إليها من وجهة نظر ثقافة الإقصاء وذلك بالمحاولة بالتخلص من الموسيقى البيزنطية، والفارسية والعربية لأنها ليست بالضرورة موسيقى تركية أصيلة.ومما يمكن ملاحظته أن كلا من أتاتورك وضياء جوك ألب و رغم  أنهما لم يكونا متأثرين كثيرا بأدبيات الموسيقى العثمانية، فإنهما أرادا أن يؤسسسا مزيجا من الموسيقى التركية،  حيث تمتزج فيها الموسيقى التركية القديمة والشعبية وتختمر بنظريات وأدبيات الموسيقى الغربية.


وباعتماد هذا الفكر الجديد تم إنتاج نوع جديد وهجين من الموسيقى التركية المتأثر بالموسيقى الغربية في محاولة لمحاكاة ممارسات الموسيقى الغربية فضلا عن السمفونيات وحفلات البالي وغيرها من الأنواع الموسيقية. وقد اشتهر خلال هذه المرحلة الملحنون الأتراك الخمسة وعلى رأسهم عدنان سايجون حيث كانوا ينافسون بدورهم الملحنين الروس الخمس. وكما كان متوقعا فإن عموم الشعب لم يتقبل هذا النوع الهجين من الموسيقى وقادهم ذلك للبحث عن بديل في الإذاعات الأجنبية كالإذاعات العربية مثل إذاعة القاهرة التي كان سكان محافظة أضنة يستطيعون إلتقاط أثيرها بسهولة. ومن بين الفنانين الذي كان سكان محافظة أضنة يستمعون له هو المغني المصري الراحل  الراحل عبد الحليم حافظ كونه أدخل بعض العناصر الجديدة على الغناء العربي بآلات غربية جديدة كالترومبون وغيرها. ومع ازدياد توجه الشعب نحو الإذاعات العربية، علق نائب البرلمان أحمد شانكيري على هذا  قائلا: أردنا منع الناس من الاستماع للموسيقى التركية الشعبية وتحفيزهم على الاستماع للموسيقى الغربية وإذا بهم لا يستمعون حتى للموسيقى التركية بل للموسيقى العربية". 


وخلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وبما أن  الموسيقى التركية التقليدية كانت تتعرض للتهميش المؤسسي الممنهج، سطع نجم الموسيقى المصرية  بأعمالها التجريبية ومحاولتها لإدخال عناصر موسيقية جديدة في ألحانها. وقد كانت السينما من بين أهم القنوات التي كانت تصدر هذه الطفرة الموسيقية المتواجدة في الساحة الفنية المصرية. فقد كانت تركيا من قبل تقتني الأفلام من فرنسا، ولكن مع اندلاع الحرب وتغير الظروف تم التوجه نحو سينما أرخص وهي السينما المصرية وبذلك بدأت الأفلام المصرية تحتل الساحة الفنية التركية مع نهاية الثلاثينات واستمر هذا الوضع  حتى نهاية الأربعينات. وقد كان الطابع العام لهذه الأفلام المصرية طابعا غنائيا موسيقيا، حيث يلعب العنصر الموسيقى دورا مهما في نص وحوار الفيلم. 


وأدى ازدهار هذه الأفلام في تركيا إلى حدوث توتر قاد إلى قرار يقضي بمنع أداء هذه الأغاني الموجودة في الأفلام المصرية بالعربية في سنة 1938. وهنا بدأت مرحلة أقلمة هذه الأغاني العربية إلى أغان تركية حيث يبقى اللحن والموسيقى كما هما ولكن الكلمات تتغير. وتم بعد ذلك  الاستقرار على تغيير اللحن والكلام كلية لتلك الأغاني من قبل ملحنين أتراك الذين كانوا يقومون فقط بتغيير طفيف على اللحن الأصلي وينسبونه لأنفسهم. ومن بين الشخصيات التركية الموسيقية التي كانت سائدة خلال تلك الفترة هو سعد الدين كايناك الذي طور بدوره أسلوبا جديدا من الموسيقى التركية التي يمكن إدماجها في الأفلام المصرية.


وفي ظل هذا المنع المتواصل للموسيقى التركية وتضييق الخناق على الموسيقى الأجنبية الوافدة بشكل كبير من مصر، بزغ من بين كل هذا طابع موسيقي جديد تم تسميته بـ "موسيقى الأرابيسك". وكان أورهان جانجي باي من بين أهم الأسماء التي تمكننا من فهم ماهية موسيقى الأرابيسك حيث كان ضليعا في الموسيقى التركية والشعبية والغربية وكان من بين القلائل الذين كان لديهم خبرة في هذه الأنواع الثلاثة. وبدأ أورهان جانجي باي مشوراه الفني بالموسيقى الغربية وهو في سن السادسة بمحافظة سامسون التركية، وقد شارك في العديد من الأفلام التركية وقد كان يتم تصويره على أنه ذلك الشاب القادم من خارج اسطنبول بتحصيل علمي قليل وموهبة فنية كبيرة. ومن بين أغانيه التي كانت سائدة خلال تلك الفترة نذكر: 


Aşkınla ne garip hallere düştüm


وجدير بالذكر أن موسيقى الأرابيسك ارتبطت بالأحياء القصديرية وسكانها الذين نزحوا من القرى والأرياف والمداشر خلال فترة الخمسينيات إلى غاية الثمانينات في موجة تعرضت لها عموم تركيا كنتيجة للأوضاع الاقتصادية المزرية التي كانوا يعانون منها. وقد توجه النازحون خلال تلك الفترة بشكل عام نحو أنطاليا وبورصا، واسطنبول وأنقرة وغيرها من المحافظات الكبيرة حيث انتشرت تلك الأحياء القصديرية بهذه المدن. وبوفود عنصر بشري جديد للمدينة، تولدت الحاجة لديهم للاستماع لطابع موسيقي يعكس طبيعة حياتهم وينقل معاناتهم اليومية بطريقة فنية تسليهم في كدحهم. فقد أرادت هذه الفئة الاستماع لما يرغبون به ومن هناك انطلق الملحنون في تأليف ألحان عوان بين الموسيقى الشعبية والعادية، وعليه فإن هذه الحاجة قد تولدت لديهم لدى وصولهم إلى المدينة وليس قبل وصولهم إليها وهي ذلك تعتبر موسيقى تابعة للمدينة والتي تولدت من حراكها، فهناك علاقة وثيقة بين موسيقى الأرابيسك وعملية التحول الاجتماعي التي كان يمر بها هؤلاء النازحون نحو المدينة. وليس هذا المسار الذي سلكته موسيقى الأرابيسك حكرا عليها وخاصا بها فقط، بل يمكننا ملاحظة نفس هذه المراحل في الطبوع الموسيقية الشعبية الأخرى التي نبعت من أعماق طبقات المجتمع الكادحة التي غالبا ما تكون مضطهدة أو مهمشة على غرار فن الفادو البرتغالي والفلامنكو الإسباني والجاز الأمريكي، وأيضا موسيقى الراي الجزائرية والتي تحاكي نوع ما موسيقى الأرابيسك في بعض من عناصرها.


 ومن بين الحاضنات التي كانت تحوي موسيقى الأرابيسك هي  "الدولمش" أو النقل الجماعي والتي ارتبطت ارتباطا وثيقا بموسيقى الأرابيسك، حيث كانت تؤدي وسيلة النقل هذه دور المسلي لركابها الذين كانوا ينتقلون بشكل يومي من  الأحياء القصديرية التي  كانت مترامية على أطراف المدينة، حيث كانوا ينتقلون إلى مركز المدينة من أجل البحث عن عمل أو لقضاء مآربهم. وكان نظام المواصلات هذا والممثل في "الدولمش" هو الشريان الذي يربطهم بالمدينة،وأغنية جانجي باي أسفله هي من بين الأغاني الكثيرة التي كثيرا ما كان يتم تشغيلها في سيارات "الدولمش":


Ne sevenim var ne soranım var öyle yanlızım


والمستمع لموسيقى الأرابيسك يلاحظ وجود آلات كثيرة ولكن آلة البغلما كن لديها حصة الأسد نسيج الأرابيسك وهي أيضا الممثلة للموسيقى التركية، حيث يعتبر الفنان أورهان جانجي باي أحد أعمدتها بدون منازع، والذي بدوره لم يتوقف عند الموروث بل قام بالتصرف في بعض ألحانه بإضافة بعض الألحان الأجنبية، ولعل خير مثال على ذلك هي أغنية "Batsın bu dünyayı'' وأيضا " Hatasız kul olmaz'' حيث أدخل بعض العناصر اللحنية من طابع الفلامنكو، ومجددا فإن هذه الأغنية التي ذكرناها سابقا والتي تعني "فليذهب هذا العالم للجحيم" ماهي إلا تعبير عن صرخة ضد الظلم السائد وماهي إلا انعكاس لذلك الاحتياج المجتمعي والرغبة في الثورة على نظام قد غالى في اضطهاده، وهي في طبعها وعبقها شبيهة بأغنية الفرقة البريطانية الشهيرة بينك فلويد "We don't need no education".  ونظرا لارتباط موسيقى الأرابيسك بالأحياء القصديرية وبثقافة الدولمش، فقد احتقرتها بعض فئات المجتمع، وكانوا ينظرون إليها نظرة سلبية، ولكن أورهان جانجي باي يؤكد على أن أعمالها التي يُنظَر إليها بشكل سلبي ماهي في الحقيقة إلا امتداد للموسيقى التركية، وقد اكتسبت أعماله ومساهماته الفنية بعدا عميقا من الناحية الأدبية والفنية.  ويجب الإشارة أيضا إلى أن حركات نزوح السكان التي شهدتها تركيا خلال تلك الفترة كانت أيضا نحو الخارج  فبعضهم  هاجر إلى ننوبارغ بألمانيا، حيث أن  أعمال الجيل الأول من المهاجرين لألماينا كانت ذات طابع هزلي مثل أغنية متين توركوز: Almanyda neler var، وأما الجيل الثاني فقد كانت احتياجاته العاطفية مختلفة حيث كانت أغاني تلك الفترة تتميز بالحديث عن الوحدة والحزن والفقرولعل خير مثال على هذا الجيل هو المغنية  يوكسال أوزكسب

وقد كان الموضوع السائد لموسيقى الأرابيسك  مرتبطا بالحب وكان عنصر الألم واللوعة والشوق والتوق للمحبوب دائما موجودا في هذا الحب الأرابيسكي. ومن أجل الخروج من هذا الحب الكليم، شهدت أيضا فترة الثمانينات محاولات لتقنين موسيقى الأرابيسك وذلك بتغيير اللحن أو الكلمات وإضافة ا بعض من المرح والسعادة  واطراح عنصر الألم ومن بين أهم مغني الأرابيسك في هذا المسعى هو حقي بولوط كأغنية: Kıskanıyorum. ولكن وكما كان متوقعا، لم يكن من السهل التخلص من عنصر الألم الذي كان هو شريان هذا الطبع الذي يميزه عن باقي الطبوع الأخرى، وكان مصير هذه المحاولة الفشل الذريع. 


ومن بين المحطات التي أثرت على مسار موسيقى الأرابيسك هو الانقلاب الذي حدث سنة 1980 بتناقضاته المختلفة، والذي نتج عنه تشكيل حكومة عسكرية مما أدى إلى حدوث أزمات متعددة وعلى أصعدة مختلفة. وقد أرادت الحكومة خلال هذه الفترة فرض الثقافة التركية القومية، وكانت في نفس الوقت براغماتية نفعية توظف كل ما من شأنه أن يحفظ النظام العام ويقلل من الأزمات، وعليه فقد رأوا في موسيقى الأرابيسك وحفلاتها وأشرطتها التي انتشرت بشكل كبير خلال تلك الفترة مهدئا لطبقات المجتمع التركي التي كانت تمر بأوضاع مزرية وبالتالي لم تكن حكومة الانقلاب تلك تسعى بشكل واضح لاقتلاع الأرابيسك من الجذور رغم قدرتها على ذلك؟ 



لقد منحت موسيقى الأرابيسك حركة فكرية تمكننا من معرفة وجهة الموسيقى والثقافة والمجتمع بعيدا عن السياسة والإيديولوجيا والإطارات الضيقة و الأدبيات التراثية المؤطرة، ومن بين الدروس التي يمكن أن نستقيها من موسيقى الأرابيسك هو أنه لا يمكن تغيير أن طابع فني بما في ذلك الموسيقى فقط بفرض قواعد تسن طريقة أدائه ولو تم فعل ذلك حقا فإن أثرها سيكون طيارا وسرعان ما سيزول. وأيضا فإن أي فن أو عمل أو حركة لا تواكب مستجدات العصر سيكون مصيرها كمصير أسواق الأشرطة السمعية التي كانت هي القلب النابض لموسيقى الأرابيسك، والتي أصبحت الآن - أي أسواق الأشرطة السمعية- مثل مدينة الأشباح لا يزورها إلا من يحن إلى أطلال الماضي.