Thursday, October 29, 2020

العربية في تركيا: ما بين فصيحة مقدسة وعاميات مطلسمة

 

مقدمة:

مما لاشك فيه أن العربية اكتسبت خلال السنوات الأخيرة مكانة مهمة في عموم تركيا لعدة أسباب من بينها الحراك السياسي الذي أحاط ولا يزال يحيط بتركيا على الصعيد المحلي و الجهوي والدولي منه. حيث نشاهد بشكل واضح أن البلدان العربية المتاخمة لحدود تركيا على غرار سوريا والعراق ومصر باتت تعاني من أزمات سياسية حادة أدت بكثير من مواطنيها إلى الهجرة نحو تركيا ساعين نحو غد أو حتى يوم أفضل بعيدا عن الاضطهاد والتيه السياسي الذي تعاني منه هذه البلدان. فقد جاء العرب وجاءت معهم العربية وازدادت أهميتها و تولدت هناك قيمة مضافة للمشهد التركي و يتضح هذا الأمر من خلال المدارس التي تعنى بتدريس العربية للناطقين بغيرها. وهذا الأمر يدفعنا للتساؤل عن ماهية العربية التي صاحبت العرب إلى تركيا: هل هي تلك العربية الفصيحة أو تلك الرطانة التي يتحدثون بها في بلدانهم. و سنحاول من خلال هذه المقالة أن نلقي الضوء على واقع العربية في تركيا من وجهة نظر لسانية موضوعية مسلطين الضوء على العربية الفصحى واللهجات المنبثقة عنها.

ولا محالة أن الخوض في موضوع العربية في تركيا يستلزم أن نعرج على العربية في موطنها الأصلي. فالمتابع للقضية اللغوية في الوطن العربي تتبين له تلك الهوة بين ما يتحدثه العرب ويكتبونه و بين ما يتعلمونه، وقد خلق هذا الأمر التباسا يدعو للتأمل من قبل أهل اللغة عن جدوى تعلم العربية في شكلها الفصيح من قبل الناطقين بغيرها، والتي  لن يجدوها، كما هو معروف بالمشاهدة، إن سافروا إلى البلدان العربية، غالبا إلا في مراسلات  الدوائر الرسمية. وعليه يرى الكثير أنه من بين الأسباب الوجيهة التي أدت إلى هذه الحالة هو  نزوح عدد معتبر من المنظرين في مجال تعليم العربية  إلى المنهج المعياري الذي لا يصف اللغة بشكلها الحالي، بل يركز على كيف يجب أن تكون اللغة ، و يغفلون بذلك مبدأ هاما من مبادئ اللسانيات الذي ينص على أن اللغة  باختلاف مشاربها، تختلف وتتبدل باختلاف الظروف المحيطة بها وأنه إن لم يكن هناك تعديل حازم، و تأقلم مبصر، وإرادة لغوية رشيدة بدعم سياسي ملموس، فإن أي تغيير يفتقد إلى هذه العناصر الحيوية كان قاصرا و لا يخدم اللغة بأي حال من الأحوال.

أمور لا بد من فهمها

هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى اتساع الهوة بين العربية الفصيحة والعامية فضلا عن الأسباب التاريخية والاقتصادية والسياسية واللغوية بطبيعة الحال.  ومحل حديثنا في هذه المقالة هو الجانب اللغوي، ولكن قبل الدخول في هذا المعترك، وجب علينا أن نتطرق إلى بعض المفاهيم المتعلقة بموضوعنا هذا والتي من شأنها أن ترفع اللبس نسبيا عن بعض المسائل المتعلقة بهذا الموضوع.

 

ماهو الفرق بين اللغة، و اللهجة، واللكنة؟ 

اللغة  في تعريفها البسيط هي نظام اتصالات يستند على رموز صوتية أو حركية ومقابل بصري لها من أجل إيصال فكرة من مرسل إلى مستقبل. أما بالنسبة للهجة فهي هي اختلاف أهل اللغة الواحدة في استخدامهم للغة من الناحية النحوية والتركيبية والصوتية أيضا. أما بالنسبة للكنة  فهو اختلاف أهل المصر الواحد في طريقة نطقهم للكلمات والحروف وأيضا النسق النبري. فعلى سبيل مثال نقول: اللغة العربية تنقسم إلى لهجة مشرقية ولهجة مغاربية، واللهجات المغاربية تنقسم إلى لكنة ليبية وتونسية وجزائرية ومغربية.


ماهي الازدواجية والثنائية اللغوية؟

بدون الخوض في شجون هذا الموضوع، سنعتمد التعريف القائل بأن الثنائية اللغوية هي قدرة المتكلم على تكلم لغتين أو أكثر وكأنها لغته الأم. أما بالنسبة للازدواجية اللغوية فهي تعايش صنفين للغة الواحدة داخل نفس البيئة أو بمعنى آخر هي استخدام العامية والفصحى في نفس السياق اللغوي.

هل للعربية أنواع؟

احتدم في السنوات الأخيرة جدل واسع النطاق في ربوع المنطقة العربية بخصوص وضع الحدود الفاصلة بين الفصيح من اللغة والعامي منه. وقد وضعت تقسيمات تعتمد على الزمان في تحديد أنواع اللغة العربية. ففي اللسانيات الحديثة يرى العديد من الباحثين أنه يمكن تقسيم العربية إلى قديمة أو كلاسيكية، و حديثة ( والتي يعبر عنها العديد من علماء اللغة الغربيين بالعامية خاصة السورية والمصرية منها). ولكن يرفض العديد من الباحثين حتى مصطلح العربية الحديثة لأن هذا الأمر يقتضي ضمنيا التخلي عن الممارسات القديمة للغة العربية باعتبارها تحفة أثرية وليست شيئا حاضرا. 

هل العربية أفضل لغة في العالم؟

وفي نفس الوقت يعتبر من الإجحاف ومن الذاتية القول بأن اللغة العربية هي أفضل لغة في العالم كون هذه النتيجة تخالف صريح المعقول وصحيح المنقول. فنزول القرآن باللغة العربية إنما هو للغة القوم الذي خرج منه نبيهم وكيف ذلك والله عز وجل يقول في محكم تنزيله:"وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم"(1). ويقول ابن حزم في هذا السياق في من يقضي بأفضلية اللغة :"وهذا جهل لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكر جالينوس ولا فرق  في نظره بينها وبين نباح الكلاب ونقيق الضفادع"(2).وعلى منوال ابن حزم يؤكد الدكتور عبد الرحمان المسدي في كتابه " الهوية اللغوية" أن من أم المعضلات في موقف العرب اليوم من لغتهم القومية تتمثل في الوهم الذي ورثوه حول قدسية غيبية ترعاها.(3)

التحديات التي تواجه مناهج اللغة العربية ومصمميها:

  • العربية أم الرطانة:

ازدهر في السنوات الأخيرة في تركيا سوق تعليم اللغة العربية وما يتضمن هذا المجال من تصميم مناهج تعليمية للناطقين بغيرها، فما فتئت العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء في الحشد والتأييد لصالح اللغة العربية وتحبيب الطلبة والمتعلمين لها لدواع عديدة لا يسعنا المجال لذكرها هنا. ومما يلفت النظر هو حيرة العديد من  دارسي اللغة العربية من جدوى تعلم العربية: أيتعلمون الفصيحة وهي قليلة التوظيف في وطنها، أم يتعلمون تلك الرطانات متعددة الأشكال والألوان والتي تختلف باختلاف البلد والمنطقة؟ أما الوضع في البلاد العربية فهو بدوره أيضا لا يخلو من السفسطائية السلبية حيث لا تزال العديد من الطوائف والمذاهب الفكرية  ترفع عقائرها وتنادي بالتخلي عن العربية واطراحها واتخاذ العامية كبديل لها، محتجين في ذلك بحتمية تغير اللغة مقارنين بذلك التغيرات التي طرأت على لغات العالم الأخرى على غرار الانجليزية والفرنسية وحتى التركية. فعملية ذوبان اللغة بين ظهراني أهليها يوما بعد يوم يشاهده القاصي والداني وهو موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل بالضرورة.

  • عدم الاعتماد على لسانيات المتون:

ومما يزيد من حيرة الدارس وقلة حيلة المدرس هو اعتماد عدد قليل من هذه المناهج على لسانيات المتون، والميل نحو  المذهب المعياري كإطار يحدد من خلاله ما يجب وما لا يجب في اللغة العربية وإغفال الاستعمال الحقيقي والمتواضع بين من يتحدثون بها. و مع ندرة مناهج  تنطلق من لسانيات المتون فإن المتعلم سيواجه  صعوبة في نقل المعارف التي اكتسبها من الصف إلى العالم الحقيقي. ولسانيات المتون هي دراسة اللغة كما هو معبر عنها في مجموعة من المتون اللغوية التي المكتوب منها والمقروء منها. (4) 

  • تعليم الظواهر الصوتية في مناهج تعليم اللغة العربية:

وأيضا من بين التحديات التي تواجه مصممي مناهج تعليم اللغة العربية والباحثين فيها هو موضوع تقعيد ظاهرة النبر في اللغة العربية بما يسمح للناطقين بغيرها بالإتيان بالظواهر فوق الصوتية (suprasegmentals) بوجه سليم فضلا عن الشدة،  والنبر الجُملي والجرس وما شاكلها من الظواهر الصوتية. ونظرا لقلة مثل هذه الأبحاث في اللغة العربية فإن العديد من المصممين يغفلون هذا الجانب المهم من تعليمية اللغة العربية وبالتالي يفسحون المجال إما لتعليم اعتباطي لهذا القسم من اللغة أو إغفاله بشكل تام.


والحـــــــل؟

التعديل الحازم:

ورد في التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية الصادر عام ٢٠١٠ أنه "لدينا في عالمنا العربي الكثير من فكر التأصيل والتنظير الذي يحتاج بالضرورة إلى فكر الواقع والتفصيل" وعليه فإنه يجب على أي مبادرة إلى تغيير الوضع الراهن أن تكون ممزوجة ببعد عملي يمكن بلوغه بشكل واقعي وفي زمن مدروس وأيضا بأثر يمكن استقرائه بمقارنة الأوضاع السابقة والأوضاع التي تأمل الأطراف الفاعلة الوصول إليها.

التأقلم المبصر:

أما المتخصصون فالأولى بهم، بل من الضروري عليهم أن يتحروا التراكيب القديمة ويدرسوها دراسة موضوعية بعيدا عن السفسطائية اللغوية، وأن يبحثوا ويمحصوا حقيقتها اللغوية، تعميقا لمعارفهم، وتأصيلا لمحصولهم اللغوي، وفي ذلك تأكيد لمواقعهم العلمية، ووصل للحاضر بالماضي.

الإرادة اللغوية الرشيدة:

إن الإرادة اللغوية هي العنصر الذي يجمع أجزاء السياسة اللغوية ويمكن لها بعيدا عن االحلول المجترة التي لا طائل منها. فعلى سبيل المثال  فإن المصطلح الغربي "approach" لم يكن لديه مقابل في اللغة العربية إلى أن اجتهد أهل المغرب العربي واقترحوا مقابلا له  وهو "المقاربة"، وظل أهل المشرق يستخدمون مصطلح "منهج" له رغم أن نفس هذه الكلمة تستخدم لمفاهيم أخرى، إلى أن ارتأى أهل المشرق تنظير مصطلح جديد يعنى بهذا المفهوم وهو "المقترب". والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما فائدة تنظير مصطلح يحاكي نفس المصطلح الذي نظره المغاربة والذي هو أقرب للمعنى بحكم تمكنهم من اللغات اللاتينية مثل الفرنسية والإسبانية.

الدعم السياسي الملموس

من المعلوم بالعقل بالضرورة أنه لنجاح أي مبادرة لغوية يجب أن يكون هناك حشد وتأييد لدى صناع القرار حتى يضفوا صفة الشرعية لأي مبادرة إصلاح لغوية ومن أجل تعميم أثرها على نطاق أوسع. وهذا من شأنه أن يسهم في تطبيق مخرجات السياسات اللغوية التي يعتمدها أهل القرار من سياسيين ومنظرين لغوين، وأساتذة، وعموم من لديه علاقة بالسياسة اللغوية المنشودة. فغياب هذه الإرادة السياسية يؤدي إلى جعل السياسة اللغوية حبيسة الأوراق. ومما يشاهد الآن هو أن هذه الإرادة والدعم السياسيين قد أثرا بشكل واضح على البلدان العربية، فنجد المجامع اللغوية على كثرتها في العالم العربي مجرد مراكز بحث محضة لا تسمن ولا تغني من جوع لعزلتها أو بالأحرى لعزلها إراديا وجعلها مجرد هيئات شرفية لا غير.




الخاتمة:

يعكس واقع اللغة العربية في تركيا انعكاسا للوضعية التي آلت إليها اللغة العربية في عقر دارها، وحجم المشاكل التي تعاني منها في هذه البلدان، وأيضا المحل الإعرابي للأطراف الفاعلة التي تؤثر وتتأثر إيجابا أو سلبا باللغة العربية. وإن لم يدق ناقوس الخطر الذي يحيط باللغة العربية فإن هذه المشاكل سيزداد حجمها وسيكون من الصعب إيجاد حلول رشيدة تسهم في انتشال العربية من حالة الفوضى التي فرضت عليها. وعليه فإنه صار لزاما على الحكومات العربية، والمجامع العربية، والباحثين، والطلبة وحتى عموم الناس أن يكونوا جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة التي تواجه العرب ولغتهم.




المراجع:

1 سورة إبراهيم، الآية 4.

2- بتصرف.

3- الهوية العربية والأمن اللغوي، عبد الرحمان المسدي.

4- يتم تحويل المصادر الصوتية في لسانيات المتون إلى نصوص مترجمة نصا وموصوفة لغويا على حسب المجال الذي تم تحديده من قبل المصمم.